الرضا عن الذات ( مفهومه - أبعاده- مؤشراته - علاقته بالصحة النفسية)
منذ شهرين
بقلم : البروفيسور محمد السعيد أبو حلاوة
يٌنْظَرْ إلى الرضا عن الذات كأحد أهم مؤشرات الصحة النفسية وعلاماتها الأساسية، وعادة ما يدرج متغير الرضا عن الذات تحت بعد التوافق الشخصي Personal Adjustment كأحد بعدي التوافق النفسي Psychological Adjustment بصفة عامة، والذي يعكس قدرة الشخص على تقبل ذاته والرضا عنها، وقدرته على تحقيق احتياجاته ببذل الجهد والعمل المتواصل، وشعوره بالقوة والشجاعة، وإحساسه بقيمته الذاتية وقيمته في الحياة، وخلوه من الاضطرابات العصابية، وتمتعه باتزان انفعالي وهدوء نفسي. ويتسق هذا التصور مع التعريفات التي طرحت لمفهوم التوافق النفسي بصفة عامة والتوافق الشخصي بصفة محددة، إذ تركز غالبية التعريفات على اعتبار الرضا عن الذات من بين أهم محددات وملامح التوافق النفسية، فقد عرف (مصطفي فهمي، 1971) التوافق بأنه " التنظيم الذاتي والعلاقات الداخلية الذاتية التي يقوم على أساسها رضا الفرد عن نفسه وعدم نفوره أو كرهه لها والخلو من الصرعات والتوترات التي ينعكس على التنظيم الذاتي للفرد وتوافقه مع الآخرين". من جانب آخر يؤكد تعريف (حامد عبد السلام زهران، 1978: 101) للتوافق الشخصي على مركزية محك "الرضا عن الذات" في تحقيق هذا التوافق، إذ يعرف التوافق الشخصي بأنه " بأنه السعادة مع النفس والرضا عنها، واشباع الدوافع والحاجات الداخلية الأولية الفطرية والعضوية والفسيولوجية والمكتسبة، وهو حالة تعبر عن سلام نفسي داخلي وقلة الصراع الداخلي، فضلاً عن التوافق لمطالب النمو في مراحله المتتابعة".
الرضا عن الذات: مفهومه وأبعاده ومؤشراته
أولاً- مقدمة- الرضا عن الذات كبعد من أبعاد التوافق النفسي:
يٌنْظَرْ إلى الرضا عن الذات كأحد أهم مؤشرات الصحة النفسية وعلاماتها الأساسية، وعادة ما يدرج متغير الرضا عن الذات تحت بعد التوافق الشخصي Personal Adjustment كأحد بعدي التوافق النفسي Psychological Adjustment بصفة عامة، والذي يعكس قدرة الشخص على تقبل ذاته والرضا عنها، وقدرته على تحقيق احتياجاته ببذل الجهد والعمل المتواصل، وشعوره بالقوة والشجاعة، وإحساسه بقيمته الذاتية وقيمته في الحياة، وخلوه من الاضطرابات العصابية، وتمتعه باتزان انفعالي وهدوء نفسي.
ويتسق هذا التصور مع التعريفات التي طرحت لمفهوم التوافق النفسي بصفة عامة والتوافق الشخصي بصفة محددة، إذ تركز غالبية التعريفات على اعتبار الرضا عن الذات من بين أهم محددات وملامح التوافق النفسية، فقد عرف (مصطفي فهمي، 1971) التوافق بأنه " التنظيم الذاتي والعلاقات الداخلية الذاتية التي يقوم على أساسها رضا الفرد عن نفسه وعدم نفوره أو كرهه لها والخلو من الصرعات والتوترات التي ينعكس على التنظيم الذاتي للفرد وتوافقه مع الآخرين".
من جانب آخر يؤكد تعريف (حامد عبد السلام زهران، 1978: 101) للتوافق الشخصي على مركزية محك "الرضا عن الذات" في تحقيق هذا التوافق، إذ يعرف التوافق الشخصي بأنه " بأنه السعادة مع النفس والرضا عنها، واشباع الدوافع والحاجات الداخلية الأولية الفطرية والعضوية والفسيولوجية والمكتسبة، وهو حالة تعبر عن سلام نفسي داخلي وقلة الصراع الداخلي، فضلاً عن التوافق لمطالب النمو في مراحله المتتابعة".
شكل (1) الرضا عن الذات في ضوء مفهوم التوافق الشخصي اعتمادًا على تعريف "حامد عبد السلام زهران، 1978: 101)
وتبعًا لذلك تتحدد مظاهر التوافق الشخصي فيما يلي (عطية محمود هنا، 1958، 58- 60، عطية محمود هنا، 1986):
-
الاعتماد على النفس: ويتمثل في أن تبين أفعال الفرد الظاهرة أنه يستطيع القيام بالأعمال مستقلا عن الآخرين، وأنه يعتمد على نفسه في المواقف المختلفة ويوجه نشاطه وسلوكه بنفسه دون ان يخضع في ذلك لأحد غيره، والشخص الذي يعتمد على نفسه يتميز أيضا بالثبات الانفعالي وبمسؤوليته عن سلوكه.
-
الإحساس بالقيمة الذاتية: وتتمثل في أن يشعر الفرد أن الآخرين يقدرونه، وأن لديهم إيمانا بنجاحه في المستقبل، وحينما يعتقد أن لديه قدرة على القيام بما يراه جديرا به غيره من الناس، وأنه له قبول من الآخرين.
-
الإحساس بالحرية الشخصية: وذلك عندما يسمح للفرد بقسط معتدل في تقدير سلوكه، وتوجيه السياسات والخطط العامة التي تحكم حياته وتشمل الحرية المرغوب فيها، على السماح له بان يختار أصدقاءه وأن يكون له مصروف خاص به لديه حرية إنفاقه.
-
الشعور بالانتماء: يشعر الفرد بالانتماء عندما ينعم بحب أسرته له ،وبالتمنيات الطيبة من قبل أصدقائه الأوفياء، وبالعلاقات الودية مع الناس عامة، مثل هذا الشخص يحسن مسايرة مرؤوسيه ويعتز بعمله.
-
الخلو من الميول الانسحابية: إن الفرد الذي يقال عنه منسحب أي (منطو أو منعزل) هو الذي يستبدل النجاح الفعلي في الحياة الواقعية بالمتع الخيالة، وهذا الشخص يتميز بالحساسية والانفراد والاهتمام بذاته والتوافق السوي يتميز بخلوه من هذه الميول.
-
الخلو من الأمراض العصابية: إن الشخص الذي يصنف على أن له أعراضًا عصابية هو الشخص الذي يقاسي من عرض أو أكثر من الأعراض الجسمية، مثل فقدان الشهية وإجهاد العين المتكرر، وعدم القدرة على النمو، والشعور بالتعب باستمرار، والأفراد من هذا النوع قد يظهرون تعبيرات جسمية من صراعات انفعالية والتوافق السوي يتميز بخلوه من هذه الأمراض.
وتتحدد ملامح السواء النفسي على ذلك في المؤشرات الدالة على "رضا الشخص عن ذاته، والتمتع بدرجة معتدلة من الاستقلالية والاعتماد على الذات، والإبحار في الحياة بمستوى معتدل من الثقة في الذات والشعور بالجدارة والاقتدار، مع تقدير ذاته إيجابيًا، فضلاً عن القدرة على تحمل المسئولية والتحرر النسبي من الأزمات والصراعات النفسية"
وتأكيدًا لهذا المعنى أشار (علاء الدين أحمد كفافي، 2005: 22) إلى أن العلاقة الصحية مع الذات أولى مؤشرات السلوك السوي، والسواء النفسي بصورة عامة لكونها العامل الأساسي في تخليق مشاعر الرضا عن الذات، وتعكس العلاقة الصحية من الذات ثلاثة أبعاد أساسية تتمثل في:
-
فهم الذات Self-Understanding: ويعنى العلاقة الصحية مع الذات أن يعرف المرء نقاط القوة والضعف لديه وأن لا يبالغ في تقـدير خصائصه ولا يقلل من شأنها، وأن يفهم ذاته فهمًا أقرب إلى الواقع، انطلاقًا من المفهوم النسبي العام: أنه لا يوجد من يخلو من بعض الجوانب السلبية، كما لا يوجد من هو عاطل كلية عن بعض الجوانب الإيجابية.
-
تقبل الذات Self-Acceptance: وهذا يعني أن يقبل الفرد ذاته بإيجابياتها وسـلبياتها وأن لا يرفـضها لأن رفض الذات أو كراهيتها يترتب عليه عجز الفرد عن تقبل الآخرين تقبلاً حقيقيًا، ولا يعني تقبل الفرد لذاته بالطبع الرضا السلبي عن الذات، بل إن هذا التقبل لا يمنع أن ينتقد الفرد ذاته وأن يحاسبها، وأن يٌقّيْم سلوكه باستمرار.
-
ترقية الذات Self-Promotion: ويعني أن لا يقنع الفرد بتقبل كما هي، بل عليه أن يحاول تحسينها وتطويرها، ويحدث التحسين والتطوير بتأكيد جوانب القوة وتعزيزها، ومحاولة التغلب على النقائص ومناطق الضعف، والتخلص من العيوب.
والرضا عن الذات "حالة نفسية" تعبر عن سوية النفس ودرجة امتلائها بالقيمة والمعنى والتقبل والتصالح والاندفاع الإيجابي باتجاه الإقبال على الحياة والترحيب بها؛ فضلاً عن القدرة على تحمل الضغوط النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي يمر بها الشخص ومواجهتها بطرق المواجهة الإيجابية .
وتشير التحليلات النظرية إلى أن الرضا عن الذات يرتبط بصور مباشرة بالنجاح الاجتماعي؛ ذلك لأن الإنسان يحتاج إلى قدر من القبول والاحترام الاجتماعي لتتكون لديه مشاعر إيجابية حول نفسه؛ فضلاً عن أن افتقاد الشخص للرضا عن الذات يفضي إلى تشوه واختلال دال في علاقاته الاجتماعية المتبادلة مع الآخرين مما يؤدي إلى تلقيه تعزيزات اجتماعية سلبية منهم تدفعه باتجاه العزلة والانسحاب الاجتماعي (Santrock, 1997:330-333) .
في حين يعد رفض الذات والنفور منها مظهرًا مركزيًا من مظاهر سوء التوافق النفسي وعلامة جوهرية من علامات اعتلال الصحة النفسية؛ لارتباطه بالصراع والقلق والتوتر وعدم الاستقرار الانفعالي، فضلاً عن تأثيره السلبي على ثبات الشخصية. (محمد الطحان، 1987: 191-198).
من جانب آخر يشير كره الذات Self-hatred وأحيانًا يطلق عليه تعبير كراهية الذات المقترنة بالنفور والاستياء self loathing إلى حالة من البغض الشديد للذات والنفور منها، وربما صب جام الغضب عليها والتحيز السلبي ضدها، ويستخدم تعبير "كره الذات" بصورة عامة من قبل علماء النفس والأطباء النفسيين لوصف الأشخاص ذوي الانخفاض الجوهري في تقدير الذات، وعادة ما يمثل كل من كره الذات والخزي من الذات Self-Shame عوامل مركزية في عديد من الاضطرابات النفسية، خاصة الاضطرابات النفسية التي تتضمن إدراك الشخص لوجود نقص أو قصور ما في تكوينه النفسي أو الجسمي مثل" اضطراب تشوه بنية الجسم body dysmorphic disorder"، ويعد كره الذات والاستياء منها عرضًا مركزيًا في عديد من اضطرابات الشخصية مثل اضطراب الشخصية البينية أو الحدية borderline personality disorder، والاكتئاب، وعادة ما يقترن بمشاعر الذنب وتأنيب الشخص لذاته لأفعال يدرك أنها خاطئة.
وفي نفس السياق يمهد كره الذات والاستياء والنفور منها في صورته الشديدة الشخص لممارسة ما يعرف بإيذاء الذات Self-harm كحالة يشعر بموجبها بأنه مجبر على عقاب ذاته وإيذائها في محاولة منه لتصريف الاكتئاب والقلق أو الغضب، وتتمثل الخطورة في هذا الأمر في بعض الحالات الشديدة من الرغبة في إيذاء الذات والتي قد تصل إلى تعريض الذات للحوادث المميتة أو حتى محاولة الانتحار.
وأشار إلى أن كره الذات ربما يمثل متلازمة مرضية يستدل عليها من بعض الملامح العامة والتي من أهمها ميل الشخص إلى تحقير الذات Self-deprecation بما يتضمنه من توجه دائم نحو التقليل من شأن الذات في كل المناسبات بل وتحطيم الذات والتسفيه لأية ملامح تميز أو جدارة فيها disparaging oneself أو حتى بالتزيد في إظهار التواضع في غير محلة بما يضيع أي خصوصية للذات، حتى وإن كان على سبيل الدعابة أو الحس الفكاهي.
ونوقشت فكرة تحقير الذات أو التقليل من شأنها في الفكر الفلسفي القديم خاصة لدى ما يعرف بفلاسفة المذهب الرواقي Stoicism الذين يعتبرون فضيلة إنكار الذات والتواضع وعدم رؤية أي جانب تميز فيها مؤشرًا من مؤشرات السكينة بل والتوجه نحو تأديب الذات وتهذيبها، وقد تكون الاستجابة الخلقية المناسبة للتعرض للإهانة أو الأذى من الأخير، فإعلاء وسع عدم رؤية أي تميز للذات يدفع الإنسان بموجب هذه الفلسفة إلى التخلص من نزعاته الدفاعية العدوانية، وعبر وليام إريفين William Irvine (2013) عن هذا المعنى بوضوح تام في كتابه "صفعة في الوجه A Slap in the Face" والذي أشار فيه إلى أن تعرضك لأية إهانة من شخص ما ليس أمرًا دالاً على أنك مختلاً أو ناقصًا أو عاجزًا، وأن تجاهلك لهذه الإهانة وعدم توقفك عندها بمثابة توجيه صفعة قوية على وجه من وجهها لك، إنه التجاهل الإيجابي من وجهة نظره، دون أن يحرفك ذلك عن مواصلة اجتهادك ومواصلة سيرك.
كما يجدر الإشارة إلى أن الأشخاص غير الراضين عن أنفسهم يستجيبون إلى ظروف الحياة ومتغيراتها بإحدى طريقتين: إما الشعور بالنقص تجاه أنفسهم؛ وبالتالي تزايد معدلات لوم الذات وتأنيبها، أو الشعور بالغضب والرغبة بالثأر من الآخرين؛ وبالتالي الدخول في دوامة الكراهية والعدوانية تجاههم مما ينغص على الشخص حياته ويقلل بصورة دالة من شعوره بالسعادة أو راحة البال (Theodorakis, 1996).
ثانيًا- مفهوم الذات Self-Concept:
عرف (ماجد موريس إبراهيم، 1999: 25) الذات بأنها "هي ال (الأنا)، و (أنا) لا تعبّر فقط عما أكونه الآنّ ولكنها تعبير أيضًا عما كنته وعما سوف أكونه! ذات الشخص هي كيان يمتد زمنيًا من لحظة الميلاد إلى لحظة الموت، وهي أيضًا ذلك الكيان الذي يشكل هذه الكثافة الوجودية في هذا الموضوع من المكان.
ويمثل مفهوم الذات Self Conceptبؤرة نظرية الشخصية من وجهة نظر روجرز، ويعرف مفهوم الذات بأنه "مجموعة منظمة ومتسقة من الإدراكات والاعتقادات التي يكونها المرء عن ذاته"، وتعد كلمة الذات The Self التعبير الأكثر ارتباطًا بما يصح تسميته الشخصية الداخلية ويمكن أن يؤشر لكلمة الروح أو لكلمة الأنا حسب الاصطلاح الفرويدي.
وتتكون الذات لدى الإنسان نتيجة تأثيرات الخبرات المبكرة التي يتعرض لها في حياته؛ فضلاً عن تأويلاته وموقفه الشخصي من هذه الخبرات، وأكد روجرز أن مفهوم الذات لدى الإنسان دالة للخبرات التي يتعرض لها في مرحلة الطفولة وفي نفس الوقت لتقييمات الآخرين له.
ووفقًا لتصورات روجرز (1959) فإن الإنسان في حاجة ماسة إلى أن يشعر ويفكر ويتصرف بطرق تعكس الاتساق أو التطابق بين تصوره لذاته Self Image وذاته المثالية Ideal Self ويفضي مثل هذا الاتساق أو التطابق إلى شعور الإنسان بالجدارة والأهلية الشخصية Self Worth.
ويمكن أن يوصف الإنسان بأنه يشعر باللاتطابق أو اللاتساق في تركيبته النفسية إذا كانت بعض خبراته غير مقبولة بالنسبة له أو إذا شوهت هذه الخبرات صورة الذات لديه.
ويرى أنصار المدخل الإنساني بصفة عامة أن الذات تتكون من مجموعة من التركيبات النفسية ذات العلاقة المباشرة بشخصية الإنسان ككل، وأن مفهوم الذات على وجه التحديد يتضمن ثلاثة مكونات:
(أ) جدارة الذات و أهليتها Self worth : كيف نشعر بأنفسنا على متصل التقدير والجدارة والاحترام، وبين روجرز أن شعور الإنسان بتقديره لذاته ينمو خلال مرحلة الطفولة المبكرة ويتشكل عبر تفاعل الطفل مع والديه.
(ب) صورة الذات Self-Image : كيف يرى الإنسان نفسه، وهي أحد محددات الصحة النفسية. وتتضمن صورة الذات تأثيرات صورة الذات الجسمية ورؤيتنا لشخصيتنا الداخلية، فعلى مستوى بسيط يمكن أن يرى الشخص ذاته كشخص طيب أو سيء، جميل أو قبيح، ولصورة الذات تأثيرات بالغة الدلالة على طرق تفكير وانفعال وتصرفات الإنسان في الحياة.
(ج) الذات المثالية Ideal self : وهي صورة الذات المبتغاة أو التي يحب أن يكون عليها الإنسان، وتتكون من إجمالي أهدافه وغاياته وطموحاته ورجاءاته في الحياة، والذات المثالية ذات طابع دينامي متغير، فالذات المثالية التي يرجوها الإنسان في طفولته تختلف عن ذاته المثالية التي يبتغيها في مراهقته أو رشده.
وأفاد (ماجد موريس إبراهيم، 1999: 25) أن "ذات الفرد هي كينونته التي تحيا داخله وبه، إنها هذا الكائن، وهذا التنظيم الحي الذي يؤدي كل الوظائف الفسيولوجية والنفسية بما يمكنه من التكيف مع البيئة، وعلى حسب طراز هذه الكينونة أو هذا التنظيم الحي، وتبعًا لما يمليه من سلوكيات في المواقف المختلفة، يبدو للآخرين ما يصطلحون على تسميته السميات الشخصية، وهي السمات التي تعكس طبيعة علاقة الإنسان بنفسه وبالبيئة من حوله.
ثالثًا- مفهوم الرضا عن الذات:
يٌعْرف الرضا عن الذات بأنه "درجة تقبل الشخص لذاته وتصالحه معها؛ فضلاً عن وعيه بجوانب قوته ومظاهره ضعفه وقصوره مع الاندفاع باتجاه التعبير الإيجابي عن جوانب القوة وتصويب مظاهر الضعف بفاعلية واقتدار، مع الحذر من أن يتحول الرضا عن الذات إلى التكبر والطيش بحيث لا تطغى مشاعر الرضا عن الذات إلى حد الرجاء المفرط ونسيان الأخطاء وتجاهلها بل الاعتراف بها وعدم الغرق في مشاعر لوم الذات أو تأنيبها".
كما يتضمن الرضا عن الذات رضا الشخص عن إنجازاته في الحياة وعن تصرفاته في مواقف التفاعل الاجتماعي المختلفة، مقترنًا بقينه في جدارته واقتداره الشخصي وتقبله لجوانب قوته ومظاهر ضعفه وشعوره بالفخر والاعتزاز بالذات دون توجه نحو مقارنة ذاته بالآخرين.
وعرف (عبد السلام عبد الغفار، 1976) الرضا عن الذات بأنه "إدراك الفرد لما زود به من إمكانيات عقلية معرفية وانفعالية، وأن الناس مختلفون في القدر الذي زودوا به من هذه الإمكانيات، والرضا بهذا القدر والعمل على الانتفاع به واستثماره وتحقيقه من دون أن يكون الرضا قائمًا على الاستسلام والخضوع، وإنما على الإدراك الواقعي للحياة، هذا مع حرية الفرد في اختيار الأسلوب الذي يحقق به إمكانياته المتعددة وإدراكه حدود هذه الحرية وتحمل مسئولية استخدامها".
وعرفت (يسرية أنور صادق، 1989) الرضا عن الذات بأنه "مدى شعور الطفل (الشخص) بقبول تصرفاته وسلوكياته واقتناعه بها".
من جانب آخر عرف (على حسين عايد، 2016) عن الذات أو عن النفس بأنه "إدراك الفرد لما يمتلكه من إمكانيات عقلية ومعرفية وانفعالية، والعمل على الانتفاع منها واستثمارها وتحقيقها عن طريق التحليل الذاتي والإدراك الواقعي للحياة مع الحرية في اختيار أسلوب تحقيق هذه الإمكانيات والكفاح من أجل الأفضل في مجالات الحياة مما يحقق للفرد الاتزان الانفعالي والارتياح العام".
ورأت كارول رايف (1989) أن الرضا عن الذات يتمثل في حالة السعادة والارتياح النفسي العام التي تنتج من مشاعر الشخص الإيجابية والجيدة عن نفسه وعن الحياة إجمالاً، والتي قوامها الوعي بالذات وتقبل الذات والشفقة بالذات" (Ryff, 1989).
شكل (2) أبعاد الرضا عن الذات.
وعلى ذلك يتحقق الرضا عن الذات وفقًا لتصورات كارول رايف (1989) عندما يشعر الناس بالسعادة عن جوانب حياتهم التي حققوا نجاحًا فيها وعن نوعية الحياة التي وصلوا إليها، وأكدت كارول رايف أن مثل هذا الرضا يتحقق في صورته الإجمالية العامة عندما يمتهن الشخص عملاً مفعمًا بالمعنى والقيمة والإثمار، وعندما تتحقق أو تنجز أهدافه الشخصية في الحياة، وعندما تكون علاقاته الاجتماعية المتبادلة مع الآخرين إيجابية وقائمة على التقبل والتواد والتراحم (Ryff, 1989).
شكل (3) محددات الرضا عن الذات.
وفي نفس السياق أفاد باسوبولتي (2009)، وبافاني وموهان (2015) أنه عندما يشعر الناس بالسعادة ويعتقدون أنهم حصلوا من الحياة على ما يريدون يميلون إلى أن يكونوا أكثر سعادة وأكثر رضا عن ذاتهم وعن الحياة إجمالاً، ويكون لهذه المشاعر تأثيرات إيجابية على الطريقة التي يختارون عيش الحياة وفقًا عليها، وعلى كيفية تعاملهم مع الآخرين، وعلى نوعية وجودة حياتهم المهنية بصفة عامة، وأشار أيضًا إلى أن ذوي المستوى المرتفع من الرضا عن الذات أفضل بصورة عامة في إدارة وحل مشكلاتهم، فضلاً عن تمتعهم بمستوى عالٍ من الحكمة في التعامل مع الذات، وفي إدارة أعمالهم ووظائفهم، وفسر ذلك بأنهم يتمتعون بقدر مرتفع من ممارسة التنظيم الإيجابي للذات كما يعبر عنها في القدرة على ضبك انفعالاتهم النفسية، وحسن ترويض الانفعالات السلبية والقلق والضغوط (Pasupuleti, 2009; Bavani & Mohan, 2015).
وأوضح دونوفان وآخرون (2002) أن ذوي المستويات المرتفعة من الرضا عن الذات يتمتعون بالانفتاح العقلي وتعددية الرؤية والتوجهات الفنية والميل إلى الإبداع في التفكير الأمر الذي يمكنهم من إدارة حياتهم بصورة عامة بطرائق إيجابية (Donovan & Halpern, 2002).
رابعًا- الرضا عن الذات في إطار نظرية الذات:
يعكس متغير الرضا عن الذات البعد الإيجابي لتقدير الذات، وعلى الرغم من الوفرة الهائلة في النظريات، البحوث، التعليقات، والمراجعات الخاصة بمصطلح : " مفهوم الذات Self-Concept" منذ أن ابتكره وليام جيمس من أكثر من مئة سنة مضت، مازال هذا المفهوم وتجلياته أو مؤشراته غامضًا ومراوغًا في الكثير من جوانبه. ويشير هارتير (1983) إلى أن مفهوم الذات غالبًا ما يوصف باستخدام الكثير من المفاهيم الأخرى المرتبطة به مثل: جدارة الذات self-worth ، تقدير الذات self-esteem ، تأكيد الذات self-assurance ، اعتبار أو احترام الذات self-regard (Harter,1983).
ويعرف كل من بيدنار، وويلس، وبيتيرسون (1989) تقدير الذات بأنه: " استحسان المرء لنفسه ذاتيًا وواقعيًا". وأشاروا أيضًا إلى أن تقدير الذات يعكس كيف ينظر المرء إلى ذاته، وكيف يقدر أو يحترم ذاته عند معظم مستويات الخبرة النفسية في إطار أبعاد الذات المختلفة والتي تُخلق أو تُنشئُ بروفيلا لانفعالات ترتبط بمختلف الأدوار التي يؤديها الشخص في الحياة.. وتقدير الذات بناء على ذلك: إحساس وجداني ثابت نسبيًا بالقيمة والجدارة الشخصية يفترض أن يؤسس على إدراكات دقيقة وواقعية للذات.
وتشير زينب محمود شقير (1993) إلى أن تقدير الذات هو :" التقويم الذي يضعه الفرد لذاته لكل من الصفات الحسنة والصفات السيئة لديه في حياته". في حين يعرفه (جمال مختار حمزة، 2000: 177) بأنه: " التقويم الذي يؤمن به الفرد لذاته ويعمل على الحفاظ عليه، ويشمل وجهة نظرة عن ذاته إيجابيًا أو سلبيًا، فهو بمثابة المرآة لحكم الفرد على مدى كفاءته الشخصية واتجاهاته نحو نفسه ومعتقداته عنها".
ووفقًا لهذا التعريف، فإن تدني أو انخفاض تقدير الذات يتميز بسيطرة الانفعالات السلبية المقترنة بالتقييمات السلبية للأدوار التي يؤديها الشخص في الحياة، أو بتدني أو انخفاض إحساس المرء بقيمته أو جدارته الشخصية أو الإدراكات غير الواقعية أو المختلة للذات(Bednar,Wells.,&Peterson,1989,p. 4).
وقد أورد بيدنار، وويلس، وبيتيرسون (1989) أمثلة متناقضة لأفراد ذوي إنجازات فائقة ومع ذلك يظهرون مشاعر عميقة لانخفاض أو تدني تقدير الذات. وأفادوا بأن أي نظرية لتقدير الذات يجب أن تأخذ في حسبانها أهمية دور تحدث المرء مع ذاته، وأفكاره عن ذاته إضافة إلى التقدير المدرك للآخرين (Bednar,Wells. &Peterson, 1989: 11). وانتهوا إلى أن: " مستويات تقدير الذات المرتفعة أو المنخفضة"، نتيجة وانعكاس للتغذية الراجعة الداخلية الوجدانية التي يخبرها الشخص معظم الوقت" (Bednar,Wells . &Peterson, 1989: 14). وقد أشاروا إلى نقطة بالغة الأهمية مفادها أنه يتعين على الأفراد في ظروف معينة خبرة أو المعاناة من بعض التغذية الراجعة السلبية من بيئتهم الاجتماعية، بعضها على الأرجح صحيحًا أو صادقًا. وعليه من الأبعاد بالغة الأهمية في نمو وتعديل أو صيانة تقدير الذات كيفية توافق الأفراد مع هذه التغذية الراجعة السلبية.
ويفيد بيدنار وآخرون (1989) أيضًا أن معظم الأفراد يتجنبون التغذية الراجعة السلبية بدلاً من التأقلم أو التوافق الإيجابي معها، وكما يسعون إلى بذل مجهود ضخم للحصول على تقدير واستحسان الآخرين عن طريق ما يعرف بإدارة الانطباعات، بمعنى آخر التظاهر بما يعتقد أنه مقبول من الآخرين. وإذا تجاوب الأفراد مع التغذية الراجعة السلبية بالاندفاع نحو إدارة الانطباعات التي يريدون من الآخرين تكوينها عنهم للحصول على تقدير واستحسان الآخرين لهم، فإنهم ودون قصد يقطعون مسار التغذية الراجعة المفيدة التي يمكن أن ينقلها الآخرين لهم، وللأسف غالبًا ما يلجئون إلى التزييف والادعاء المفضوح أو المكشوف مما يترتب عليه نتائج عكسية تتمثل في اعتقاد الآخرين بأن مثل هذه النوعية من الأفراد لا يستحقون الاحترام أو التقدير، وبالتالي التعبير عن هذا الاعتقاد بتغذية مرتدة سلبية ترسخ في نفوس هؤلاء الأفراد مع استمرارها أو تكرارها الإحساس بالضعف النفسي.
وانشغال المرء الزائد بذاته وبإدارة انطباعات الآخرين يجعل سلوكه يتضمن الكثير من مكونات أو ملامح تعريف النرجسية والافتنان بالذات، كما أن عدم رضا الشخص عن ذاته عرضًا أساسيًا من أعراض معظم الاضطرابات النفسية والسلوكية؛ نظرًا لما يرتبط به من شعور زائد بالنقص والدونية مقارنة بالآخرين (Bednar, Wells. & Peterson, 1989: 13).
وينظر رواد الاتجاه الإنساني باعتبارهم المؤسسون لنظرية الذات إلى أن الإنسان ككائن فاعل يستطيع حل مشكلاته وتحقيق التوازن وأنه ليس عبدا ً للحتميات البيولوجية كالجنس والعدوان كما يرى فرويد أو للمثيرات الخارجية كما يرى السلوكية الراديكاليون من أمثال (واطسن وسكنر 1993) وأن التوافق يعني كمال الفعالية وتحقيق الذات ، في حين أن سوء التوافق ينتج عن شعور الفرد بعدم القدرة وتكوين مفهوم سالبا ً عن ذاته .
وتمثل نظريتي (روجرز Rogersوماسلو Maslo) أهم النظريات في هذا المجال حيث يربطان إجمالا ً التوافق بتحقيق الذات Self Actualizationأو بلغة روجرز في كتاباته الأخيرة الشخص كامل الفاعلية أو كامل التوظيف Fully Functioning Person ، ويرى روجرز أن الشخص المنتج الفعال هو الفرد الذي يعمل إلى أقصى مستوى أو إلى الحد الأعلى وأنه يتصف بما يلي :
-
الثقـة: وهؤلاء الأشخاص قد يأخذون آراء الناس الآخرين وموافقة مجتمعهم في الحسبان لكنهم لا يتقيدون بها كما أن محور أو نواة عملية اتخاذ القرار موجودة في داخل ذويهم لتوفر الثقة في أنفسهم .
-
الانفتاح على الخبرات : حيث يكون هذا الشخص مدركا ً وواعيا ً لكل خبراته فهو ليس دفاعيا ً ولا يحتاج إلى تنكر أو تشويه لخبراته .
-
الإنسانية : هؤلاء الأشخاص لديهم قدرة على العيش والسعادة والاستمتاع بكل لحظة من لحظات وجودهم فكل خبرة بالنسبة لهم تعتبر جديدة وحديثة فهم لا يحتاجون إلى تصورات مسبقة لكل فكرة أو موقف لتفسير كل ما يحدث فهم يكتشفون خبراتهم خلال عملية التجربة أو المعايشة التي يمرون بها .
-
الإبداع : وهؤلاء الأشخاص يعيشون بطريقة فاعلية في بيئاتهم ويتسمون المرونة والعفوية بدرجة تتيح لهم التكيف بصورة صحيحة مع المتغيرات في محيطهم وتجعلهم يسعون إلى اكتساب خبرات وتحديات جديدة وهؤلاء الأشخاص يتحركون بثقة إلى الأمام في عملية التحقيق الذاتي .
-
الحرية : فهؤلاء الأشخاص يتصرفون بشكل سوي ، خيارات حرة ، يوظفون طاقاتهم إلى أقصى حد ويشعرون ذاتيا ً بالحرية في أن يكونوا واعين لحاجاتهم ويستجيبون للمثيرات على ضوء ذلك .
ويشير روجرز إلى أن الأفراد الذين يعانون من سوء التوافق يعبرون عن بعض الجوانب التي تقلقهم فيما يتعلق بسلوكياتهم غير المتسقة مع مفهومهم عن ذواتهم وأن سوء التوافق النفسي يمكن أن يستمر إذا ما حاول الأفراد الاحتفاظ ببعض الخبرات الانفعالية بعيدا ً عن مجال الإدراك أو الوعي، وينتج عن ذلك استحالة تنظيم مثل هذه الخبرات أو توحيدها كجزء من الذات التي تتفكك وتتبعثر نظرا ً لافتقاد الفرد قبوله لذاته وهذا من شأنه أن يولد مزيدا ً من التوتر والأسى وسوء التوافق .
كما أكد ماسلو من خلال نظريته في تحقيق الذات وهرمه الشهير المعروف بهرم الحاجات إلى استمرارية كفاح الإنسان وفاعليته المستمرة لإشباع حاجاته، وإن هذه الحاجات تتدرج في أهميتها من الحاجات البيولوجية المرتبطة بوجود الإنسان المادي إلى حاجات الإنسان النفسية المرتبطة بوجوده النفسي، كما يؤكد ماسلو على أن أهمية تحقيق الذات في تحقيق التوافق السوي الجيد، لذا قام بوضع عدة معايير للتوافق شملت الإدراك الفعال للواقع، قبول الذات، التلقائية، التمركز حول المشكلات لحلها، نقص الاعتماد على الآخرين، الاستقلال الذاتي، استمرار تجديد الإعجاب بالأشياء أو تقديرها، الخبرات المهمة الأصلية، الاهتمام الاجتماعي القوي والعلاقات الاجتماعية السوية، الشعور بالحب تجاه الآخرين، وأخيرا ً التوازن أو الموازنة بين أقطاب الحياة المختلفة .
خامسًا- الرضا عن الذات وتقبل الذات Self-acceptance:
يعرف تقبل الذات بأنه "وعي الشخص وإدراكه لمكامن قوته ومظاهر تميزه، وبواطن ضعفه وجوانب قصوره دون تهوين أو تهويل، وتقديره لقدراته ومواهبه وقيمته بصورة واقعية بعيدًة عن الذاتية والتحيز، فضلاً عن شعوره بالرضا عن ذاته بالرغم من ملامح قصوره ونقصه، وبالرغم من سلوكياته واختياراته الماضية" (Gregg, 2014; Lorrie, 1978; Vlahopoulos, 1985).
وتقبل الذات فيما يرى شيبارد Shepard (1979) رضا الشخص أو سعادته بذاته، ويعتقد أن هذا الرضا أمرًا حاسمًا في الصحة النفسية الإيجابية للشخص، ويتضمن تقبل الذات: فهم الذات self-understanding، التقييم والوعي الموضوعي للذات وفقًا لجوانب القوة ومظاهر الضعف، بما يترتب عليه شعور الشخص بتفرده وقيمته وجدارته الذاتية.
ويٌنْظر إلى تقبل الذات من منظور علم النفس الكلينيكي وحركة علم النفس الإيجابي كمطلبًا قبليًا لتوجه الشخص نحو تغيير ذاته وتجويد نوعية حياته والارتقاء بها، ويمكن أن يتحقق تقبل الذات عن طريق توقف الشخص عن نقد ذاته وتوقفه عن تأنيبها وإهانتها وجلدها، والتركيز في التغلب على مظاهر قصوره وتصويب ذاته، وإذا تعذر تغييرها تم التعايش معها والتركيز في تحسين جوانب أو مظاهر نمائية أخرى وعلى ذلك يعني تقبل الذات في جزء منه تعايش الشخص مع مظاهر ضعفه التي يستحيل التغلب عليها، ومن ثم تحملها واعتبارها جزءًا من تكوينه (Bernard, 2014: 15).
من جانب آخر عرفت (آمال زكريا النمر، 2016) تقبل الذات بأنه " شعور الفرد بالرضا عن نفسه كما هي بدون شروط أو رفض أو انتقاد أو إصدار أحكام، مع وعيه بنقاط قوته ونقاط ضعفه وبحدود قدراته واستعداداته وبمميزاته وعيوبه مع وجود رغبة لديه في تعديل هذه العيوب.
ويعد تقبل الذات بعدًا مركزيًا من أبعاد مفهوم طيب الحياة النفسية أو جودة الحياة النفسية والسعادة والهناء النفسي في نموذج كارول رايف لطيب الوجود النفسي Psychological Well-being ، يمثل ما يعرف بالتنعم القائم على الاجتهاد والمثابرة من أجل تحقيق الذات اقترنًا بالفضائل والسجايا الإنسانية eudaimonic well-being الذي ينظر فيه إلى جودة الحياة النفسية أو السعادة والهناء النفسي وحسن الحال النفسي أو الرفاهة النفسية على أنه تكوين متعدد الأبعاد منها بعد تقبل الذات ويتميز ذوو المستوى المرتفع من تقبل الذات بامتلاك اتجاهًا إيجابيًا نحو الحياة؛ يعترفون ب/ويتقبلون الجوانب المختلفة للحياة بما فيها الجوانب الإيجابية والجوانب السلبية، يتقبلون ما مر به من خبرات في الماضي، في مقابل ذوو المستوى المنخفض من تقبل الذات إذ يشعرون بعدم الرضى عن الذات؛ يشعرون بخيبة الأمل بسبب الأحداث الماضية في حياتهم؛ يتمنون أن يكونوا مختلفون عن ما هم عليه الآن.
ويفهم متغير تقبل الذات وفقًا للتحليل السابق كأحد أهم محددات السعادة الحقيقية أو الأصيلة Authentic Happiness وربما أهم مؤشراتها في نفس الوقت، ويتسق هذا التصور مع ما يعرف بمذهب اليوديمونيا في وصف وتفسير السعادة وطيب الحياة.
اليوديمونيا Eudaimonia كلمة إغريقية قديمة εὐδαιμονία تترجم عادة إلى السعادة happiness أو الرفاهة أو الخير والصلاح والازدهار welfare، ومع ذلك يرى أنصار حركة علم النفس الإيجابي أنها تتضمن دلالات عامة تشير إلى ما يسمونه "الازدهار والارتقاء الإنساني human flourishing or prosperity" (Robinson, 1999).
ومن منظور الاشتقاق اللغوي تتكون كلمة Eudaimonia من مقطعين، الأول: Eu ويعني خير أو جيد أو صلاح، والثاني: daimōn ويعني روح spirit، ويمثل تعبير Eudaimonia المفهوم المركزي في فلسفة الأخلاق وفلسفة السياسة لدى أرسطو، بالاقتران مع مصطلحي:
-
Arête ويترجم إلى الفضيلة virtue أو التميز والتفوق excellence.
-
Phronesis ويترجم إلى الحكمة العملية أو الأخلاقية practical or ethical wisdom. (Rosalind Hursthouse, 2007).
وتمثل حالة اليوديمونيا eudaimonia في أعمال أرسطو ما يعرف الخير أو الصلاح الأسمى كغاية نهائية لفلسفة السياسة وفلسفة الأخلاق، إلا أنها حالة وجودية من المنظور النفسي تمثل أعلى وأسمى وأجل مؤشرات السعادة في صورتها النقية.
شكل (4) أبعاد طيب الوجود النفسي (السعادة أو الهناء أو التنعم النفسي ) (Ryff & Keyes, 1995).
وتتحدد خصائص ذوو المستوى المرتفع من تقبل الذات على ذلك فيما يلي (Ryff & Singer, 2006):
-
امتلاك اتجاهًا نفسيًا إيجابيًا نحو الذات.
-
الاعتراف ب وتقبل كل أبعاد أو جوانب شخصيته (إيجابية كانت أم سلبية).
-
الابتعاد عن النقد المهين للذات أو تحقير الذات وإهانتها.
-
الوعي بالذات وإدراك ماهية الذات وهويتها.
-
عدم تخيل صورة أخرى للذات، بل التجاوب مع الذات بالنحو التي هي عليه.
سادسًا- تقدير الذات في مقابل تقبل الذات Self-Esteem vs. Self-Acceptance:
أشار ليون إف زيلتزر Leon F Seltzer إلى أن تقبل الذات self-acceptance لا يعني نفس دلالات تعبير تقدير الذات self-esteem على الرغم من الارتباط فيما بينها. فبينما يشير مصطلح "تقدير الذات" إلى البعد الوجداني لتقييم الذات والمرتبط بمدى شعور الشخص بجدارته واقتداره وثقته في ذاته، يشير مصطلح تقبل الذات إلى توجه عام نحو الذات يتضمن التعامل معها كما هي بكل جوانب تميزها ومظاهر ضعفها، ويقصد بالتقبل غير المشروط للذات أن يدرك الشخص مظاهر ضعفه وجوانب قصوره وبواطن نقصه إدراكًا إيجابيًا يدفعه أولاً باتجاه الاعتراف بها وفقًا لقدرها الواقعي لا تهويلاً ولا تهوينًا، وثانيًا عدم ممارسة لعبة لوم الذات وتأنيبها بسببها، وثالثًا النظر إليها وفقًا لمقارنتها أو وزنها بكفة الميزان الأخرى للذات والتي تتضمن مكامن القوة وجوانب التميز ومظاهر التفوق، ورابعًا المثابرة والاجتهاد من أجل التغلب عليها أو على الأقل تحييد تأثيراتها إن تعذر التخلص منها.
وتتوقف فعالية العلاج النفسي من منظور المدخل الإنساني في علم النفس على دفع الشخص باتجاه تحديد الجوانب التي لا يتقبلها في ذاتها، وأن مجرد هذا التحديد والاكتشاف ربما يمثل الخطوة الأولى في مسار تحسين تقديره لذاته، ذلك لأن الحب السوي للذات لا يترجم في دلالاته النفسية إلا وفقًا لمفهوم "تقبل الذات"، وتتمثل مؤشرات تقبل الذات في توقف الشخص عن التقييم النقدي السلبي لذاته، وبالتالي التوقف عن تأنيب الذات ولومها، وبدلاً من ذلك التوجه نحو تعزيز كل ما يشعر الشخص بالاطمئنان إلى الذات والاعتقاد بجدارتها واقتدارها، وعلى ذلك يعد تقبل الذات أحد محددات السعادة وطيب الحياة وربما أولى مؤشراتهما في نفس الوقت.
سابعًا- محددات تقبل الذات:
بصورة عامة، مثلما هو الحال فيما يتعلق بمتغير تقدير الذات، لا يصل الأطفال إلى تقبل الذات إلا إذا تعايشوا في سياقات تفاعل اجتماعي قائمة على التقبل والتواد والدفء خاصة من قبل الآباء ومقدمي الرعاية لهم خلال مرحلة الطفولة.
وتظهر نتائج الدراسات البحثية أنه قبل سن الثامنة، لا توجد لدى الطفل قدرة على تكوين شعور مستقل ومتمايز ذاته، وأن هذا الشعور ينقل إليه عن طريق مقدمو الرعاية له، وعليه إن عجز الآباء عن إشعار الطفل أنه متقبل ومرحب به وكيان إنساني مستقل قائم بذاته له جدارته واقتداره وأهميته الذاتية فلن يتكون لديه مفهوم واضح للذات وبالتالي تتوقف كافة مكونات مفهوم الذات مثل: تقدير الذات، وجدارة الذات، وصورة الذات، وتقبل الذات، بل ربما يقع في براثن ما يعرف بتناقض الهوية فمن جهة يشعر بأن له ذات جسمية منفصلة ومتمايزة نوعيًا عن الآخرين، ومن جهة أخرى يشعر أن اعتماديته على الآخرين من المنظور النفسي قائمة ولا سبيل للتخلص منها.
كما أن الاحترام والتقدير الإيجابي الذي نتلقاه من آبائنا يؤثر بصورة شديدة العمق على تصوراتنا لذاتنا وللآخرين وللحياة وعلى أفعالنا وتصرفاتنا، وإذا بالغ الآباء في التعبير عن النفور والاستياء من تصرفات أبنائهم تنقل رسائل نفسية تستقر في البنية النفسية للأبناء مفادها أنهم غير صالحين وربما يبنون تصوراتهم لذاتهم وفقًا لهذا الاعتقاد فبدلاً من تكون تقبل الذات يقعون في دائرة رفض الذات.
وفي نفس السياق فإن التقييم السلبي للأطفال من قبل آبائهم والمتعلق بصورة عامة باستهجان سلوكياتهم والمرتبطة دائمًا بنقل رسائل للأطفال مفادها أنهم أنانيون، سيئون، قبيحون ...الخ وغير ذلك من صيغ سوء المعاملة الانفعالية يؤدي بهم إلى تكوين صورة سلبية عن الذات قوامها التركيز التام على الخصائص والسمات السلبية بكل ما يقترن بذلك من آلام نفسية راجعة إلى الاستياء من الذات ورفضها والنفور منها.
وإذا ما اتسعت دوائر التعرض لسوء المعاملة خاصة سوء المعاملة الانفعالية من الأقران والمعلمين في بيئات التفاعل الاجتماعي تتخلق لدى الطفل مؤشرات الشك في الذات self-doubt ويركز في وصفه لذاته على مظاهر ضعفه وجوانب قصوره ويعتبرها تعريفًا نفسيًا لذاته؛ وبالتالي يتعذر قبوله لذاته بغض النظر عن جوانب التميز ومظاهر القوة التي يمكن أن تكون كامنة في شخصيته.
ثامنًا- كيف نصبح أكثر تقبلاً للذات؟
ببساطة ربما ظاهرية، يمكن أن نصبح أكثر تقبلاً لذاتنا عبر ثلاث مسارات جوهرية تتطلب جهدًا من الذات وربما تتطلب في كثيرٍ من الحالات برامج إرشادية وعلاجية محكمة تطبق على يد متخصصين مؤهلون:
-
زراعة الشفقة والرفق بالذات Cultivating Self-Compassion.
-
التخلص من مشاعر الذنب Letting Go of Guilt.
-
تعلم التسامح مع الذات والعفو عنها Learning to Forgive Ourselves.
يتحقق ما يعرف بالتقبل غير المشروط للذات بالرغم من جوانب قصورنا ومظاهر ضعفنا عندما يتوجه الآباء مباشرة نحو نقل رسائل نفسية إيجابية إلينا قوامها أننا محل ترحيب وتقبل وتواد، كما أن التقبل غير المشروط للذات دالة في جزء منه للتعايش في بيئات اجتماعية ثقافية مساندة قوامها الترحيب والتراحم والتراحب.
ولكن إن كانت مثل هذه الظروف المثالية غير موجودة، ما الذي نحن بحاجة إليه لتعلم الثقة في أنفسنا وتقبلها والترحيب بها؟ على الإنسان في مثل هذا الموقف أن يجتهد ويثابر بنفسه لإثبات خصوصية الذات والإعراب عن أصالتها وعلى الرغم من صعوبة هذا المنحى إلا أنه السبيل الآمن لتحقيق ليس التقبل المشروط للذات بل التقبل الإيجابي للذات Positive Self-acceptance لارتباطه هنا بمصطلح آخر أكثر دقة وأكثر وجاهة في دلالاته النفسية هو مصطلح "الرضا عن الذات self-satisfaction"، ولا يتم ذلك إلا عند التوقف عن عادة الحكم على الذات وفقًا لتصورات الآخرين ورؤاهم أو وفقًا لتصورات معيارية مبالغ فيها ذات طابع كمالي يتعذر الاقتراب منه.
وأكد روبرت هولدين Robert Holden في كتابه "السعادة الآن Happiness Now!" أن السعادة وتقبل الذات وجهين لعملة واحدة، إذ أن مستوى تقبل الإنسان لذاته يحدد مستوى سعادته، وكلما زاد مستوى تقبل الإنسان لذاته، كلما زاد معه شعوره بالبهجة والسرور والطمأنينة.
ومن المحددات المركزية في تخليق الشعور بتقبل الذات ما يعرف بتوجه الشخص نحو الرفق بذاته والشفقة بها والحنو عليها self-compassion، فإذا أيقن الإنسان أن مظاهر الضعف والقصور في كل البشر أمرًا مسلمًا به تفهم ذاته والتمس لذاته أعذارًا يبنى عليها تسامحه مع ذاته وتصالحه معها، مع اقتران ذلك باليقين بحتمية استمرارية الحياة والإثمار الإيجابي فيها بغض النظر عن مظاهر الضعف وجوانب القصور.
ولكي يتبنى الإنسان توجهًا محبًا للذات ومرحبًا بها، عليه أن يتقبل ذاته وأن يدرك أنه من غير المحتم أن يبنى تقبله لذاته على موقف الآخرين منه، وأن الانصياع لموقف الآخرين من الذات ربما فيه إهانة للذات وتقليلاً من شأنها ودفعها في غيابات تصورات الآخرين ورؤاهم دون داعٍ.
ومن جهة أخرى قد يصل الإنسان إلى التقبل الإيجابي للذات إذا أدرك أنّ سلوكيات السعي نحو الحصول على استحسان الآخرين ورضاهم عنه approval-seeking behaviors قد يعوقه عن التعبير الإيجابي عن ماهية الذات وأصالتها، وغالبًا ما نقع جميعًا في فخ تأثيرات ما يعرف بالمرغوبية الاجتماعية Social Desirability والتي قد يضطر الإنسان تحت إلحاحها إلى تزييف الذات إرضاءً للآخرين والقاعدة تقول "ما أشد سخافة الإنسان الذي يتنكر لخصوصية ذاته إرضاءً للآخرين".
ومن أهم موجبات الرفق بالذات أن يعرف الإنسان قدره وأن يتسامح مع ذاته ليقينه بأن الكمال مثال نحبه لكن لا يمكن أن نحققه، إن الرفق بالذات دالة لحب الذات وتقديرها واحترامها.
تاسعًا- مؤشرات عدم الرضا عن الذات:
تشير التحليلات النظرية إلى أن الرضا عن الذات يرتبط بصور مباشرة بالنجاح الاجتماعي؛ ذلك لأن الإنسان يحتاج إلى قدر من القبول والاحترام الاجتماعي لتتكون لديه مشاعر إيجابية حول نفسه؛ فضلاً عن أن افتقاد الشخص للرضا عن الذات يفضي إلى تشوه واختلال دال في علاقاته الاجتماعية المتبادلة مع الآخرين مما يؤدي إلى تلقيه تعزيزات اجتماعية سلبية منهم تدفعه باتجاه العزلة والانسحاب الاجتماعي (Santrock, 1997:330-333) .
كما يجدر الإشارة إلى أن الأشخاص غير الراضين عن أنفسهم يستجيبون إلى ظروف الحياة ومتغيراتها بإحدى طريقتين: إما الشعور بالنقص تجاه أنفسهم؛ وبالتالي تزايد معدلات لوم الذات وتأنيبها، أو الشعور بالغضب والرغبة بالثأر من الآخرين؛ وبالتالي الدخول في دوامة الكراهية والعدوانية تجاههم مما ينغص على الشخص حياته ويقلل بصورة دالة من شعوره بالسعادة أو راحة البال (Theodorakis, 1996).
وتتعدد المؤشرات الدالة على عدم الرضا عن الذات وتعكس بصورة عامة استياء الشخص من ذاته واندفاعه باتجاه لومها وتأنيبها مع الإنفاذ السلوكي لمضامين ما يعرف بظاهره جلد الذات، ويقترن بهذه الظاهرة بعض المظاهر السلوكية التي يمكن تلخيصها فيما يلي:
-
التعاسة والضيق الانفعالي:
يمر كل إنسان بهذه التجربة على الأقل جزء من الوقت أو في مرحلة ما من مراحل حياته وفقًا لأحداث الحياة وظروفها، وقد يتطوّر هذا الضيق إلى مرحلة متقدمة من الاكتئاب، الذي قد يصل إلى كراهيتنا لأنفسنا وتتحول كل الإيجابيات إلى سلبيات. قد تندهشون من وجود أسباب غير متوقعة تسبب كراهية الشخص لنفسه لكنها ليست ناتجة عن الحرمان، إنّما تنتج عن الحصول على كلّ مبتغى. فعندما يحصل الإنسان على كل ما يتمناه في الحياة، يضفي عليه نوعا من الأنانية، وبعدها تترجم إلى كراهية ليس لمن حوله إنما لنفسه.
-
التحدث السلبي مع الذات:
كما يتضح في عدم التوقف عن ترديد عبارات سلبية عن الذات مثل أنا شخص فاشل، أشعر بأني لن أفلح في أي شيء، لا قيمة ولا معنى لحياتي، وغير ذلك من التعبيرات المحقرة للذات، والتي لا يركز فيها الشخص إلا على جوانب القصور في تركيبته النفسية، مع التهويل من شأنها على الدوام.
ويعكس التحدث السلبي مع الذات أحد جوانب عملية جلد الذات كمت تتمثل في توبيخ الشَّخص لنفسه بأسلوبٍ وعبارات قاسية، عمَّا بدر منه من سُلوكٍ أو قول، ويبقى فكرُه في اجترار مُتكرِّر مع ذكريات ذلك الموقف، وإعادة توبيخ نفسه معها في كلِّ كرَّة، حتى تزيد من بُغضه لنفسه وكرهها، وعندها لا يجد الشخص منفذًا غير الانسِحاب والاكتِئاب، والذي يُمثِّل أسلوبًا دفاعيًّا سلبيًّا من قِبَلِه لمواجهة هذه الحالة.
-
الاستسلام والبلادة السلوكية:
كدالة لافتقاد الشخص بهجة الحياة وشعوره بضياع المعنى والمغزي من حياته؛ مما يؤدي إلى اهتزاز التوازن النفسي؛ وبالتالي الاستسلام والبلادة السلوكية العامة وانعدام الفاعلية العامة في الحياة والركون إلى السلبية وتقبل أحداث الحياة وأمورها كما هي.
-
تضخيم الأمور:
يركز الإنسان غالبًا على الأشياء التي يعجز عن تحقيقها مما يخلق جوًا من الاكتئاب. فيهمل باقي الجوانب الإيجابية في الحياة ويحدث شيء من عدم التوازن والخلل، وبعدها تهرب السعادة والرضا منه ويزداد معامل عدم رضاه عن الذات.
-
العيش بالندم:
كما يتمثل في الشعور الزائد بالندم والتحسر على الذات والرثاء لها واجترار الآلام دون تعلم من الأخطاء ودون عزم على تصويبها.
-
التغيير المفاجئ:
وهو دالة لتشوه مفاهيم الشخص عن الذات وعن الحياة ومعناها بالنسبة له، مما يعمق من شعوره بالعجز والاستياء من الذات.
-
الميل لمقارنة الذات بالآخرين:
ويتمثل في اندفاع الشخص باتجاه مقارنة ذاته على الدوام بالآخرين مع الميل إلى التقليل من شأن الذات واستصغارها مقارنة بهم.
-
اختلال في العلاقات الاجتماعية:
كما تتضح مؤشراته في الميل إلى العزلة والانسحاب الاجتماعي والانكفاء على الذات واجترار الآلام.