القيادة الملهمة
منذ شهر
بقلم : أ.د ابراهيم شوقي
القيادة الملهمة ....... هل حقا بالقيم؟
لا يقتصر تأثير القادة الملهمون على قدرتهم على توجيه الآخرين نحو هدف مشترك فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى إشعال شرارة الإلهام والتحفيز في قلوبهم. هذا التأثير العميق لا يأتي من فراغ، بل هو نتاج مجموعة من العوامل والمصادر التي تساهم في تشكيل شخصيتهم وقدرتهم على التأثير في الآخرين.
ومن أبرز مصادر التأثير لدى القادة الملهمين تمتعهم برؤية واضحة وملهمة للمستقبل، وهي الرؤية التي يستطيعون نقلها إلى فريقهم بوضوح وحماس، مما يجعل الجميع يشعرون بأنهم جزء من شيء أكبر من أنفسهم. و ترتكز رؤيتهم على مجموعة من القيم والمبادئ التي يؤمنون بها، والتي تشكل أساس ثقافة الفريق وتساهم في بناء الثقة والولاء.
يتميز القادة الملهمون بالشخصية السوية، حيث يتمتعون بسمعة طيبة في النزاهة والأمانة والصدق والموضوعية، مما يجعلهم قدوة جاذبة لقادة أخرين دون خوف او قلق على فقد مكانتهم. هذا إلى جانب الثقة بالنفس وقدرتهم على اتخاذ القرارات الصعبة التي تلهم الآخرين وتزيد من ثقتهم في القيادة. وعلى الرغم من مكانة هؤلاء القادة فإنهم يتصفون بالتواضع والاستماع إلى آراء الآخرين، مما يخلق بيئة عمل يسودها الاحترام والثقة المتبادلة.
يمتلك القادة الملهمون مهارات التواصل الفعال إذ يستخدمون لغة واضحة ومؤثرة لإقناع الآخرين بأفكارهم ورؤيتهم. ويخصصون وقتًا للاستماع إلى أفكار ومشاعر فريقهم، مما يجعلهم يشعرون بأنهم مسموعون ومقدرون. و يستخدمون لغة الجسد للتعبير عن حماسهم وثقتهم بأنفسهم، مما ينقل طاقة إيجابية إلى الآخرين.
القادة الملهمون قادرون على بناء علاقات مبنية على الثقة والاحترام المتبادل مع فريقهم. ويشجعون على التعاون والعمل الجماعي، و يفهمون مشاعر واحتياجات الآخرين، ويتعاملون معهم بإنصاف وتعاطف. مما يخلق مناخ عمل يسوده روح الفريق الواحد.
يحرص القادة الملهمون على التعلم المستمر والتطوير الذاتي و يتمتعون بفضول دائم لمعرفة المزيد وتطوير مهاراتهم. و يتقبلون التغيير ويستجيبون له بمرونة و يشجعون فريقهم على المشاركة في اتخاذ القرار والتعلم والتطوير المستمر. والأهم من ذلك ليس لديهم مايخشون معرفة الغير به، لأنهم يقفون على أرض صلبة.
القيادة الملهمة والأرض الصلبة
يقف القادة الملهمون على أرض صلبة قوامها القيم الأخلاقية في اتخاذ القرارات والسلوك. ولذلك لديهم القدرة على تحويل الأفراد إلى فريق متماسك، والأحلام إلى واقع. ولا يقتصر تأثيرهم على المؤسسة التي يعملون بها، بل يتجاوز ذلك إلى المجتمع ككل. ومن خلال فهم مصادر تأثيرهم، يمكننا جميعًا أن نتعلم منهم ونطور مهاراتنا القيادية.
يتميز القادة الملهمون بالنزاهة والصدق والإنصاف واحترام الآخرين. وهم باعثون للثقة، ويبنون علاقات قوية، ويخلقون بيئات عمل إيجابية. ومن هنا نتطرق للحديث عن مزايا القيادة الأخلاقية.
يبني القادة الملهمون الثقة مع أعضاء فريقهم، مما يؤدي إلى زيادة الدافعية والإنتاجية والولاء والاحتفاظ بالعناصر الايجابية من أعضاء فريق العمل وجذب قادة آخرين ، كل في مجال تخصصه. و تتمتع المؤسسات التي لديها قادة أخلاقيون بسمعة أفضل وتجذب أفضل المواهب. و يبني القادة الملهمون علاقات قوية مع أعضاء فريقهم وأصحاب المصلحة والعملاء، ويخلقون بيئة عمل إيجابية وداعمة يشعر فيها الموظفون بالتقدير والانتماء.
من هنا نؤكد أن القيادة الأخلاقية ضرورية للنجاح الحقيقي على المدى الطويل. ومن المرجح أن تزدهر فرص النمو والإبداع لدى المؤسسات التي تعطي الأولوية للأخلاق على المدى الطويل.
قيم القيادة الملهمة
يستند القادة الملهمون إلى مجموعة من القيم والمبادئ الأساسية التي توجه اتخاذ القرارات والسلوك. هذه القيم والمبادئ ضرورية لبناء الثقة، وإلهام الآخرين، وخلق بيئة عمل إيجابية وأخلاقية.
يكمن التأثير الحقيقي في القيادة بالنزاهة والمبادئ الأخلاقية، قيادة أساسها الحرص على تنمية من حوله ومهاراته في جذب وتطوير قادة آخرين. هؤلاء القادة ليسوا مجرد رؤساء، بل هم محفزون للإبداع والنمو، فهم يبثون في من حولهم روحًا من الإلهام والتطلع إلى المستقبل.
يتصرف القادة الملهمون بصدق في جميع تعاملاتهم ويتجنبون المساومة على قيمهم من أجل المكاسب الشخصية. و يعاملون الجميع باحترام، بغض النظر عن منصبهم أو خلفيتهم. ويقدرون التنوع وتقبل مختلف الآراء ويخلقون بيئة يسودها التعاون والتكامل لكونهم يعاملون الجميع بإنصاف وذكاء اجتماعي وعاطفي. يتجنبون المحاباة ويحرصون على تقبل التغيير والتعلم الذاتي والمستمر. يرفضون المناورات واصطناع الازمات ويكرهون الخداع، لأنهم صادقون بشأن نواياهم وأفعالهم. ويتسمون بالرحمة والتعاطف ويهتمون بمشاعر الآخرين ويحرصون على دعم الغير دون مزايدة، إنهم صامدون نفسيا، يتحملون المسؤولية عن أفعالهم وقراراتهم و يعترفون بأخطائهم وحقوق الغير، ويتجنبون سياسات العمل السرية ويقدمون تفسيرات واضحة لأفعالهم. ولديهم الشجاعة للدفاع عن آرائهم دون تعصب ولا تطرف. فضلا عن ذلك فهم متواضعون ويقُرّون بحدود معرفتهم وقوتهم، وهم على استعداد للتعلم من الآخرين والاعتراف بأخطائهم والتعلم منها. وإجمالا ينظر القادة الملهمون إلى دورهم على أنه خدمة للآخرين، وهم ملتزمون بإحداث تأثير إيجابي على مؤسستهم ومجتمعهم.
من خلال تبني هذه القيم والمبادئ، يمكن للقادة الملهمين خلق بيئة عمل إيجابية وملهمة تعزز الثقة والاحترام والتعاون. و تمكنهم أيضًا من إلهام الآخرين للعيش والعمل بصدق وإحداث تأثير إيجابي .
ومن أشهر نماذج القيادة الملهمة بالقيم الأخلاقية سيد الخلق، سيدنا محمد الذي قاد ويقود وسيقود شعوب العالم إلى ان تقوم الساعة ولم تكن قيادته إلا بالقيم النبيلة. كذلك مارتن لوثر كينغ جونيورمثال قوي للقيادة الأخلاقية التي ناضلت من أجل المساواة والعدالة العرقية. ونيلسون مانديلا الزعيم السياسي والثوري المناهض للفصل العنصري في جنوب إفريقيا الذي أصبح أول رئيس أسود للبلاد. وإنديرا غاندي أول رئيس وزراء هندي وأخر امرأة تولت هذا المنصب وقادت البلاد خلال أوقات صعبة.
وعلى مر التاريخ هناك قادة فقدوا نفوذهم بسبب صفاتهم وسلوكياتهم الشخصية ، حيث فقد العديد من القادة نفوذهم أو اختفوا تمامًا بسبب صفاتهم وسلوكياتهم الشخصية. ومن أشهر هذه الأمثلة ريتشارد نيكسون الرئيس الأمريكي الأسبق، تآكل نفوذه بشكل لا رجعة فيه بسبب فضيحة "واترجيت"، التي كشفت تورطه في التستر على اقتحام مقر اللجنة الوطنية الديمقراطية. وكذلك إيدي أمين ديكتاتور أوغندا، والذي تراجع نفوذه بسبب سلوكه العشوائي، وانتهاكات حقوق الإنسان، وسوء الإدارة الاقتصادية. كذلك نذكر الملياردير جيفري إيبستين والذي دُمر نفوذه تمامًا بعد اعتقاله وإدانته بتهمة الاتجار بالبشر. تُظهر هذه الأمثلة أنه حتى أقوى القادة يمكن أن يفقدوا نفوذهم في النهاية بسبب عيوبهم الشخصية وسلوكياتهم. من الضروري أن يكون القادة على دراية بقواهم وضعفهم وأن يسعوا إلى التصرف بصدق واحترام، أما دون ذلك نجده في القيادة الماكرة أو القائد اللعوب.
القيادة الماكرة: وفقد التأثير الحقيقي
القادة لا يصنفون، إنما نصنف الأفعال. فمثلا هناك مواقف يكون فيها القائد مستبدا ومواقف أخرى يكون فيها متعاونا ومستمعا لآراء الغير، وهو الأمر الذي يمثل جوهرنظرية القيادة الموقفية، وثمة تساؤل مهم. هل سبق وقد مارست ولو مرة واحدة اسلوب القيادة الماكرة؟ وما كان جدواها؟ وهل حققت من خلالها التأثير الحقيقي في الأتباع على المدى البعيد؟.
عزيزي القارئ ... إن سبق وقد مارست القيادة بمكر في بعض المواقف، اعتذر لنفسك وسامح نفسك فورا، واخلص النية بالتوقف عن اتباع اسلوب المكر حتى لا يصبح هذا النمط عادة وتصنف نفسك ضمن القادة الماكرين.
والقادة الماكرون هم أفراد يستخدمون تكتيكات نفسية للسيطرة على الآخرين والتأثير عليهم. لكنه تأثير زائف على المدى البعيد. وغالبًا ما يستخدمون استراتيجيات خادعة وقسرية ومناورة لكسب القوة لزائفة اوالسيطرة والطاعة الظاهرية. نغم ، يمكن أن نجد هؤلاء القادة في سياقات مختلفة، بما في ذلك السياسة والدين ومؤسسات العمل وحتى داخل الأسرة.
ومن التكتيكات الشائعة التي يستخدمها القادة الماكرون جعل الضحية تشكك في واقعها أو ذاكرتها أو عقلها. عن طريق انكار أو تشويه خبرات الضحية، مما يجعله يشك في نفسه. وغالبًا ما يعزل القادة الماكرون ضحاياهم عن الأصدقاء والخبراء ومصادر الدعم االحقيقين، مما يجعلهم أكثر عرضة للسيطرة. وقد يتعمد القادة الماكرون إثارة الخوف للتلاعب بالآخرين، مما يخلق لديهم إحساسًا بالخوف والقلق فيقدمون قرابين الطاعة والولاء. أو قد يجعل القائد الضحية يشعر بالذنب لشكه في سلطته أو عدم تلبية توقعاته. كذلك قد يحرص القائد الماكر على إغراق الضحية بالمودة والكفاءة الزائفة واصطناع الاهتمام لكسب ثقته وولائه. وقد يستخدمون الإطراء والوعود الحالمة والتواصل العاطفي للتلاعب بالآخرين.ومن سوء الطالع غالبًا ما يتمتع القادة الماكرون بالكاريزما ويمكن أن يكونوا مقنعين للغاية.
ولحماية نفسك من التلاعب استعد بتثقيف نفسك بشأن تكتيكات التلاعب العقلي وكن على دراية بالعلامات، وحافظ دائما على العلاقات الصحية والقوية مع الأصدقاء والخبراء الثقة الذين يمكنهم تقديم الدعم. وإذا شعرت بشيء غير طبيعي، فثق بحدسك. وضع حدودا واضحة مع الآخرين، بما في ذلك أولئك الذين قد يكونون ماكرين. ومن أبلغ الحكم المأثورة " لا تقتدي أبدا بحي" ، لأنه ببساطه شديدة قد يضل فنضل من ورائه. وهو ما نلمحه في ظاهرة تقديس بعض القادة والمؤسسات. وهو ما نعرض له فيما يلي.
القيادة المقدسة
لقد كان التبجيل والتقديس للقادة جزءًا من المجتمعات البشرية منذ آلاف السنين. و يمكن أن يكون ذلك إيجابيا ليعزز النظام والوحدة ومنع الفوضى، إلا أنه يمكن أن يكون أيضًا مدمرا وهداما. وربما يتوقف التأثير على عوامل من أهمها طبيعة المجتمع ومستواه الثقافي، فلا مجال لتحقيق أي فائدة من تقديس القادة في عصر الانفتاح الفكري والثقافي والعالم المفتوح.
يمكن أن يؤدي تقديس القادة والثقة المطلقة في قدراتهم إلى الخضوع لهم دون تفعيل التفكير النقدى وتنوع الآراء، بل يسيطر القرار الفردي، مما يؤدي إلى ضعف النظام وجموده وسيطرة روح الاستبداد والانفراد بالرأي الواحد كمصدر للحكمة المطلقة. و القادة الذين يتم تبجيلهم دون تساؤل قد يكونون أكثر عرضة لاستغلال سلطتهم لتحقيق مكاسب شخصية، ولذلك ارتبط تقديس القادة بضعف وانهيار المجتمعات والمؤسسات.
ويشهد التاريخ بأمثلة لانهيار القيادات المبجلة والمنزهة عن كل خطأ، فقد كانت الإمبراطورية الرومانية تتميز بتركيز قوي على الخضوع للسلطة والتبجيل للإمبراطور. و خلال العصور الوسطى، كان النظام الإقطاعي قائمًا على تسلسل هرمي من اللوردات والعبيد، مع قواعد صارمة للخضوع والولاء.
لذلك من المهم التوقف عن تقديس القيادات والمؤسسات والفصل بين القول وقائله وتفعيل مهارات التفكير الناقد لتقييم المعلومات واتخاذ قرارات مستنيرة، بعيدا عن الاستغلال والخداع المقصود، لاتخاذ قرارات تتسق مع قيمنا وأهدافنا العامة ولا تتعارض مع الأهداف الفردية.
وثمة تساؤل أخير ... أليس احترام السلطة واجبا؟
نعم من المهم احترام السلطة واتباع القواعد المشروعة، مع الحفاظ على التفكير النقدي والتشكيك في السلطة عند الضرورة، نريد مجتمعا يكون فيه الأفراد أحرارًا في التعبير عن آرائهم بمسئولية ودون تردد، ويشاركون في صنع واتخاذ القرار، مما يزيد من حماسهم والتزامهم بتنفيذه، هذا إن كنا نسعى بصدق لنؤسس لمجتمع صحي أكثر عدلا ومتطورا.
المراجع
إبراهيم شوقي و آية الله عبده (2024). مهارات القيادة. القاهرة: مطبوعات جامعة القاهرة.
إبراهيم شوقي (2021). سيكولوجية الإدارة والقيادة. القاهرة: مطبوعات جامعة القاهرة.
طريف شوقي (1993). السلوك القيادي وفعالية القادة. القاهرة: دار غريب للطباعة والنشر.
-Brown, M. E., & Trevino, L. K. (2003). Ethical leadership: How to define, develop, and deploy it. Business Horizons, 46(6), 57-66.
-Gardner, W. L., Avolio, B. J., Luthans, F., May, D. R., & Walumbwa, F. O. (2005). Can leaders be developed? The role of authentic leadership development. The Leadership Quarterly, 16(3), 345-365.
-Kouzes, J. M., & Posner, B. Z. (2017). The leadership challenge: How to make extraordinary things happen (6th ed.). Jossey-Bass.
-Shapiro, J. L., & Stefkovich, J. A. (2016). Ethical leadership and decision making in education. Routledge
بقلم أ. د إبراهيم شوقي
بروفيسور علم النفس
جامعة UHA - جامعة القاهرة