الضغوط والمرونة الإيجابية.. كيف يمكن لبعض الأشخاص تجاوز الأوقات العصيبة بينما ينهار آخرون؟
منذ 4 أسابيع
بقلم : د. سمية إبراهيم
الضغوط والمرونة الإيجابية.. كيف يمكن لبعض الأشخاص تجاوز الأوقات العصيبة بينما ينهار آخرون؟
يعيش الإنسان حالة دائمة من المعاناة عندما يمر بأوقات عصيبة وعندما يتعرض للضغوط بمستويات وأنواع مختلفة محاولاً تفاديها أو حلها ؛ فالضغوط تُعد ظاهرة مميزة للحياة الإنسانية يعيشها الفرد في مسيرة حياته، حيث ترتبط الضغوط بأحداث الحياة اليومية.
وتختلف قدرة الافراد في التعبير عن ضغوطهم،بل يختلف رد فعل الفرد الواحد في التعبير عن الموقف الضاغط من لحظة إلى أخرى،حيث نجد بعض الأفراد يستسلمون لهذه الضغوط مما يعرضهم لحالة من الاكتئاب،وقد نرى آخرين من يحاول أن يهرب من ضغوطه باللجوء إلى التدخين أو الإدمان،بينما نرى من يمتلكون القدرة على مواجهة هذه الضغوط بالصلابة النفسية والمرونة في التعامل مع المواقف الضاغطة.
ويعتبر مصطلح الضغط من المصطلحات الشائعة في الحديث اليومي بين الأفراد من مختلف التخصصات العلمية والمهنية،ومن مختلف الأعمار الزمنية والمستويات الاجتماعية والتعليمية.
فكلمة الضغط هي كلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية Stress،وشاع استخدامها بشكل كبير في القرن السابع عشر بمعنى المشقة Hardship،والشدة Straits، والمحنة adversity،الآسى affliction،أما في نهاية القرن الثامن عشر فقد اُستخدمت بمعنى القوة والضغط والإجهاد،وقد ظهر المصطلح لآول مرة عام 1944 ثم بدأ ينتشر أثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها.(Lazarus,1994:6)
ويعتبر سيلي Selye أول رائد لدراسة الضغط، ولكنه لم يستخدم هذا المصطلح في كتابته الأولى،بل أشار إلى زملة التكيف العامGeneral Adaptations (GAS) ليشير بها إلى محاولات الجسم للدفاع عن نفسه ضد العوامل الضاغطة.
ووضع سيلي (Selye) تعريفًا دقيقًا لمفهوم الضغوط، ووضح أن الجسم يدخل في حالة "الاستجابة للتوتر" عندما يواجه مواقف صعبة. وبيَّن أن هذه الاستجابة تنقسم إلى ثلاث مراحل:
1. مرحلة الإنذار: حيث يفرز الجسم هرمونات تزيد من اليقظة والجاهزية مثل الأدرينالين والكورتيزول.
2. مرحلة المقاومة: يتكيف الجسم مع الضغط إذا استمر لفترة طويلة ويزيد من قدرته على التحمل.
3. مرحلة الإرهاق: إذا استمر الضغط لفترة طويلة جدًا، يبدأ الجسم بالتدهور، وتظهر عليه آثار سلبية مثل التعب الجسدي والنفسي (Selye, 1974).
وتؤثر الضغوط على الصحة النفسية والجسدية وتؤدي الضغوط خاصةً المزمنة منها، إلى إطلاق هرمونات كالأدرينالين والكورتيزول، مما يعزز نشاط الجسم في البداية. ومع ذلك، فإن التعرض المستمر لهذه الهرمونات يمكن أن يؤدي إلى مشكلات صحية خطيرة كما تؤثر سلبًا على جهاز المناعة . مما يؤدي إلى تغيرات عضوية كالإصابة بالمرض،او الآرق أو التغيرات الهرمونية الدورية. (عبد الستار ابراهيم،119:1998)
ويكمن علاج الضغوط ليس في التخلص منها أو تجنبها،واستبعادها من حياتنا؛لأن وجود الضغوط في حياتنا أمر طبيعي،ولكن يتفاوت الأفراد في تعرضهم للضغوط،كما تتفاوت استجابتهم للضغوط،وبذك فإن علاج الضغوط لا يتم بالتخلص منها وإنما بالتعايش الإيجابي معها،ومعالجة نتائجها السلبية.
وهنا يأتي دور المرونة الإيجابية كآلية فعّالة لتحويل هذه الضغوط إلى فرص للنمو والتطور الشخصي.والتكيف مع الصعوبات وتحويل آثارها السلبية إلى فرص لبناء أنفسنا بشكل أقوى وأكثر استقرارًا."
ما هي المرونة الإيجابية؟
المرونة الإيجابية Resilience، هي القدرة على التكيف مع الصعوبات والتعافي بعد الأزمات. وتشير الدراسات إلى أن المرونة تتكون من عوامل وراثية وبيئية، حيث تؤثر تربية الفرد وتجربته الحياتية في تعزيز مرونته (Masten, 1998). ويرى الأفراد الذين يتمتعون بمرونة نفسية الأزمات كفرص للنمو، ويتعلمون كيف يتجاوزون الأوقات الصعبة بتفاؤل وإصرار.
وفيما يلي أمثلة عن المرونة الإيجابية:
الأشخاص الذين تجاوزوا صدمات كبيرة: مثل الحروب أو فقدان الأحباء، وأصبحوا قادرين على استئناف حياتهم بقوة.
الرياضيون الذين يتعافون من الإصابات: حيث يتطلب التعافي قوة ذهنية وجسدية للتغلب على الألم والعودة للمنافسات.
فقد أوضحت الأبحاث أن المرونة الإيجابية Resilienceهي عملية بناءة تنطوي على معنى إيجابي للحياة، فالناسُ يظهرون تلك الإيجابية في مواقف الحياة الصعبة؛ ووصف الأشخاص بأنهم إيجابيون على نحو مرن لا يعني أنهم محصنون ولا يخبرون الصعاب أو الضغوط، فالألم الانفعالي والحزن من الأعراض الشائعة لدى الأفراد الذين يعانون من صدمات وشدائد قوية في حياتهم، والواقع أن الطريق إلى المرونة الإيجابية غالبًا ما يكون محفوفًا بالضغط الانفعالي. فالمرونة الإيجابية ليست سمة يتسم الفرد بها، ولكنها تتضمن سلوكيات وأفكارا وأفعالا يمكن أن يتعلمها وينميها أي فرد. (Haynes, 2001: 12)
ويستعرض مانسفيلد وآخرون (Mansfield et al., 2012) مجموعة من السمات التي يتميز بها الأفراد ذوو المرونة الإيجابية، وهي سمات جُمعت من خلال الأبحاث والنظريات المتعددة في مجال المرونة النفسية. وتشمل هذه السمات:
القدرة على تكوين علاقات إيجابية وداعمة مع الآخرين والاستفادة من الدعم الاجتماعي (Social Support).
امتلاك مهارات معرفية وتواصلية قوية (Good Cognitive & Communication Skills).
تقدير الذات وتقدير إنجازات ومواهب الذات والآخرين.
الشعور بالكفاءة الذاتية (Self-Efficacy)، والأمل (Hope)، وتقدير الذات العالي (Self-Esteem).
التمتع بإحساس واضح بهدف ومعنى للحياة (Sense of Purpose of Life).
الالتزام القوي بالقيم أو الانتماءات الروحية (Religious Commitment) والشعور بالانتماء (Belonging).
اتخاذ موقف إيجابي تجاه متطلبات الحياة الاجتماعية.
القدرة على تعزيز وتطوير الذات بشكل مستمر (Self-Enhancement).
استخدام استراتيجيات مواجهة مناسبة تتوافق مع الموقف الشخصي (Coping Styles).
التمتع بمشاعر إيجابية (Positive Emotions) وروح الدعابة (Humour).
امتلاك مهارات فعّالة في حل المشكلات (Active Problem-Solving Skills).
الإيمان بأن الضغوط يمكن أن تكون مصدرًا للقوة الشخصية.
التحلي بالمرونة (Flexibility) التي تساعد على التكيف مع التغيرات.
تقبل المشاعر السلبية والنمو من خلال التجارب الصعبة.
التعامل بشكل إيجابي مع الضغوط والنظر إليها كفرص للتحدي.
اتخاذ قرارات واعية تعزز العمليات الوقائية الذاتية (Protective Processes).
وعلى هذا تعد المرونة الإيجابية (resilience) من المفاهيم النفسية المتعددة الأبعاد، حيث تعكس القدرة على التكيف بشكل إيجابي مع التحديات والضغوط. فيصف كونر ودافيدسون (2003) المرونة كإطار يجمع بين القدرة على التحمل والمبادأة، والمرونة النفسية التي تسمح للفرد بـ"الانحناء بدون كسر" تحت الضغوط. يُشبه مفهوم المرونة بعملية ديناميكية تتفاعل فيها العوامل النفسية والمعرفية، لتشكل نظامًا دفاعيًا يتجاوز الصمود السلبي إلى مستوى استجابة إيجابي نشط. هذا التصور يشمل مجموعة من الخصائص، منها التحمل النفسي، والشجاعة، والرغبة في التعلم من التحديات، وكل ذلك يعمل معًا لتكوين شخصية أكثر قوة وقدرة على مواجهة الصعوبات بشكل يعزز التطور والنمو النفسي. (Connor & Davidson, 2003).
وهناك مجموعة من الخصائص والمكونات للمرونة الإيجابية كما جاءت في العديد من الكتابات والأطر النظرية، ويمكن إجمالها في المكونات التالية
1. كفاءة الذات (Self-Efficacy)
يتسم الفرد الذي يتمتع بالمرونة الإيجابية بكفاءة ذاتية عالية، حيث تُعتبر الكفاءة الذاتية مؤشرًا لمدى قدرة الفرد على التحكم في أفعاله الشخصية وأعماله. يشير باندورا (1997) إلى أن الشعور العالي بالكفاءة الذاتية يساعد الفرد على مواجهة التحديات، اتخاذ القرارات، ووضع أهداف مستقبلية طموحة. الأشخاص الذين لديهم إحساس عالٍ بالكفاءة الذاتية يسلكون غالبًا بفعالية أكبر ويكونون أكثر قدرة على التكيف مع بيئاتهم. في المقابل، يرتبط نقص الكفاءة الذاتية بالاكتئاب والقلق والعجز، وانخفاض التقدير الذاتي، وأفكار تشاؤمية حول القدرة على الإنجاز. يعد الشعور بالكفاءة الذاتية عاملاً حاسمًا في النجاح أو الفشل، لذا تحتل الكفاءة الذاتية مركزًا مهمًا في دافعية الفرد، خاصةً للطلاب الجامعيين الذين تساعدهم على مواجهة الضغوط النفسية والأكاديمية. (Bandura, 1997).
2. المساندة الاجتماعية (Social Support)
الأفراد ذوو المرونة الإيجابية يتميزون بقدرتهم على إقامة علاقات اجتماعية متواصلة وداعمة. يلعب الدعم الاجتماعي دورًا مهمًا في تخفيف حدة الضغوط النفسية، حيث يشير كوهين وويلز (1985) إلى أن الدعم الاجتماعي يعمل كعامل مخفف للتوتر. الأفراد الذين يتلقون دعمًا اجتماعيًا، سواء من الأسرة أو الأصدقاء، يكونون أكثر قدرة على مواجهة التحديات والتكيف مع ضغوط الحياة اليومية. (Cohen & Wills, 1985).
3. الانفعالات الإيجابية (Positive Emotions)
يتميز الأشخاص ذوو المرونة الإيجابية بالقدرة على التعبير عن انفعالات إيجابية، والتي تساعدهم في التعامل بفعالية مع الصعوبات والضغوط. وفقًا لنظرية فريدريكسون (2001)، الانفعالات الإيجابية، مثل السعادة والمرح، تعمل على توسيع منظور الفرد وزيادة قدرته على التفكير الإبداعي، مما يعزز مرونته وقدرته على تجاوز التحديات. يمكن تعزيز هذه الانفعالات من خلال استراتيجيات مثل الاسترخاء، التمارين الجسدية، والأنشطة الاجتماعية التي تُعزز الشعور بالرضا والسعادة. (Fredrickson, 2001).
4. الأمل والتفاؤل (Hope and Optimism)
الأمل والتفاؤل عنصران أساسيان في تعزيز المرونة الإيجابية. يصف سنايدر (2002) الأمل كعنصر قريب من التفاؤل، حيث إن الأفراد المتفائلين يتوقعون حدوث أمور جيدة في حياتهم، بينما يتوقع المتشائمون حدوث أمور سلبية. يختلف المتفائلون والمتشائمون في طريقتهم للتعامل مع المشكلات، حيث يساعد التفاؤل الأفراد على مواجهة التحديات بروح أكثر إيجابية. (Snyder, 2002).
5. التعاطف والإيثار (Empathy and Altruism)
يتمتع الأفراد ذوو المرونة الإيجابية بسمات التعاطف والإيثار. يصف باتسون (1991) التعاطف على أنه القدرة على فهم مشاعر الآخرين وتجاربهم، وهو ما يتيح تواصلًا أعمق ومشاركة وجدانية إيجابية. التعاطف أكثر من مجرد إحساس بالآخر، حيث يتمكن الأفراد من فهم المشاعر الكامنة وراء تجارب الآخرين، مما يسهم في تعزيز التماسك الاجتماعي والدعم المتبادل. (Batson, 1991).
6. الفكاهة وروح الدعابة (Humor)
الفكاهة تُعدّ من الخصائص الأساسية للمرونة الإيجابية، حيث إنها تمنح الأفراد القدرة على مواجهة التحديات بروح مرحة. يشير مارتن (2007) إلى أن الفكاهة تساعد الأفراد على التقليل من حدة التوتر ومواجهة أصعب المواقف بمرونة أكبر. الأشخاص الذين يمتلكون روح الدعابة يمكنهم تحويل أكثر الأمور تعقيدًا إلى مواقف عادية يسهل التعامل معها، مما يعزز من قدرتهم على التكيف. (Martin, 2007).
في الختام، تبقى المرونة الإيجابية من أهم السمات التي تميز الأفراد القادرين على مواجهة تحديات الحياة والتكيف مع الضغوط التي قد تعصف بهم. إنها ليست مجرد القدرة على التحمل، بل هي قدرة على التحول والنمو في مواجهة الصعوبات، وتحويل الأزمات إلى فرص لاكتشاف الذات وبناء القوة الداخلية. الأفراد الذين يتمتعون بالمرونة الإيجابية لا يقتصرون على تجاوز المحن، بل يعيدون صياغة تجاربهم بشكل يتلاءم مع تطلعاتهم وأهدافهم، ويتعلمون منها دروسًا تجعلهم أكثر حكمة وإصرارًا. في الوقت الذي تكون فيه الضغوط جزءًا لا مفر منه من حياة الإنسان، فإن ما يميز الأفراد المرنين هو قدرتهم على تحويل الألم إلى دافع، والحزن إلى قوة، والفشل إلى بداية جديدة. فالمرونة الإيجابية ليست مجرد سمة ثابتة، بل هي عملية ديناميكية مستمرة من التعلم والتكيف والنمو، حيث يبني الإنسان نفسه من جديد في كل مرة يتعرض فيها للاختبار. وكلما واجهنا التحديات بروح مرنة ومتفائلة، كلما أصبحنا أكثر قدرة على العيش بسلام داخلي واستقرار، متمتعين بالقوة والإرادة التي تتيح لنا مواجهة ما يخبئه لنا المستقبل بثقة ونجاح.
المراجع:
-
عبد الستار ابراهيم(1998):الاكتئاب اضطراب العصر الحديث،فهمه وأساليب علاجه،الكويت:المجلس الوطني للثقافة والفنون،سلسلة عالم المعرفة،العدد (23).
- Lazarus.R.&Folkman,.(1994):stress, Appraisal ,and coping .New York :McGraw-Hill.
- Bandura, A. (1997). Self-Efficacy: The Exercise of Control. New York: W.H. Freeman.
-
Batson, C. D. (1991). The Altruism Question: Toward a Social-Psychological Answer. Hillsdale, NJ: Erlbaum.
-
Cohen, S., & Wills, T. A. (1985). "Stress, Social Support, and the Buffering Hypothesis." Psychological Bulletin, 98(2), 310–357.
- Fredrickson, B. L. (2001). "The Role of Positive Emotions in Positive Psychology: The Broaden-and-Build Theory of Positive Emotions." American Psychologist, 56(3), 218–226.
-Haynes, A. (2001). Childhood Resilience: A developmental Model to Promote Positive Outcomes despite Adversity. Ph. D. thesis. Faculty of the californium school of professional psychology at a lamed.
Martin, R. A. (2007). The Psychology of Humor: An Integrative Approach. Burlington, MA: Elsevier Academic.
-Masten, A. and Coatsworth, J. (1998). The development of competence in favorable and unfavorable environments. American psychologist, 53(2).205-220.
- Selye, H. (1974). Stress without distress. J. B. Lippincott Company.
- Snyder, C. R. (2002). Hope Theory: Rainbows in the Mind. Psychological Inquiry, 13(4), 249–275.
-Van Galen, M.; De puijter, M.; and Smeets, C. (2006). Citizens and Resilience, Amsterdam: Dutch Knowledge & Advise Centre.
-Connor, K. M., & Davidson, J. R. T. (2003). "Development of a new resilience scale: The Connor-Davidson Resilience Scale (CD-RISC)." Depression and Anxiety, 18(2), 76-82
-Mansfield, C., Beltman, S., Price, A., & McConney, A. (2012). "Don't sweat the small stuff: Understanding teacher resilience at the chalkface." Teaching and Teacher Education, 28(3), 357–367